أغمض عينيه داخل السيارة التي تقله ليلتقي بها. انسابت ذكرياته،
ثلاثون عاما مضت علي آخر لقاءاتهما، ثلاثون عاما، لكن قلبه
وعقله لا يزالان يحتفظان بصورتها كما تركها، أخبره الكثيرون
أنها قد تغيرت؛ لكنه موقن أنها لا تزال شابة جميلة نقية رقيقة حانية.
أخيرا سيراها.. لحظات وتملأ قلبه قبل ناظريه، كأنه لا يوجد
غيرها في المكان، يرتمي بين أحضانها، يقبل قدميها، يلثم بناظريه
كل ذرة في كيانها، يرجوها أن تمسح عنه أحزان الفراق، في لحظة كأنها الدهر سيبثها أشواقه المخزونة، مواجعه المحزونة،
آكام الآلام التي مزقت قلبه لوعة وحزناً.
ثلاثون عاما.. عمر بأكمله وهو عنها بعيد محروم منها، هجرها
بعد أول مرة أحس فيها بغربته، بعد أن فتحت ذراعيها وقلبها لغيره وقدمت له كل "التسهيلات"، يومها قرر أن يبتعد، لكنه هناك
كان يسأل كل قادم منها عنها: ألا تزال شابة أم غزا الشيب مفرقها؟ قالوا إنها كبرت قليلا، ترهلت، لكنها كانت في قلبه وخياله
كما تركها؛ كأن الزمن قد توقف عند لحظة الفراق، هي لا تزال جميلة نقية رقيقة حانية.
لم تكرهه.. لم تطلب منه الابتعاد.. لم تلفظه.. لكنه هو الذي ابتعد.. أطال الاغتراب.. نأى ونسى ما كان بينهما من حب. لا لم
ينس ذكري واحدة من ذكرياته معها.. لقد كانت تعيش داخله وهو بعيد عنها كما كان يعيش داخلها وهو قريب منها.
اقتربت لحظة اللقاء أكثر.. أخيراً يا حبيبتي بعد كل هذا العناء سنلتقي.. آه كم أود أن أرتمي على صدرك، أغمض عيني، أتنفس
بهدوء النائم المطمئن، أشعر بسعادة طفل وهو بين يدي أمه وثدييها، أخيرا سأرتاح من لوعة الفراق وحرقة الأشواق.
خذيني يا حبيبتي.. ضمي جسدي المتعب إلى جسدك.. دعينا نتوحد، أنا جزء منك، خرجت وها أنا ذا أعود إليك، ذرة في
ترابك.. لكنك كل كياني.. حتى لو حِرت في تفسير شعورك نحوى بعد كل هذا الفراق، حتى لو أتاهتني دروبك بعد أن كبرتِ، أنت
محقة في كل ما ستقولينه عني، أنا عائد نادم، أخطأت.. وأنتظر العقاب.. لكنك رحيمة دوما.. أنت لست حبيبتي فقط.. أنت حبي..
أريحيني من الترحال، دعيني أغترف من حنانك، لكن فقط دعيني أفعل شيئا واحدا، دعيني أعترف أنني لم أحب قبلك ولا بعدك.. مدينة أخرى.